- قام بالثورة قلة مندسّة كانوا يرون في مصر أعظم بلاد الدنيا ولكن دنّسها الفساد والاستبداد..
- اعتقد هؤلاء اعتقادًا يقينًا أن الشعب المصري كله اتخنق من الفساد والمحسوبية وإهدار الكرامة..
- ظنّ هؤلاء ظنًّا يقينًا أن الموت في سبيل انقشاع هذه الغُمّة سيبلّغهم الشهادة، فرأوا إما أن يحيَوْا كرامًا أو يستشهدوا في سبيل الله كرامًا..
- ما اعتقد هؤلاء أن موتَهم سيكون سُدى..
- ما تخيّل أحدُهُم أن موته سيستهزئ به البعض..
- ظنّوا أن قلة كانت منتفعة من نظام مبارك، ولكن السّواد الأعظم من الناس يرون في نظامه عفنًا جثم على صدر هذه البلاد عقود حتى أفقدها صلاحيّتها..
- اعتقد هؤلاء أن مصر رائدة، وأنه إذا كان هذا النظام المباركي دنّس ريادتها ونسب للدولة المصرية العِمالة والخيانة للقوى الكُبرى، وإذا كان هذا النظام باع أهلَنا في مختلف بقاع الأرض من غزة إلى السودان إلى الصومال، فإن هذا ينتسب للنظام والمنتفعين منه فقط، ولا يمكن أن يوافق الشعب المصري كله على ذلك!
- لم يكن يتصور هؤلاء بأي سبيل أنه سيسعى أقوام ممن لم يكونوا على انتفاع رسمي بالنظام السابق إلى إعادة إنتاجه.
- بل في ظنّي أنهم سيُصدموا إذا ما علموا أن قطاع كبير ممّن أوذوا في العهد السابق شرّ إيذاء، هم أنفُسُهم، أن يسعوا لإعادة إنتاج النظام السابق!
* * *
تخيّل أن مثل هذه الآمال التي قامت عليها الثورة وخلعت من أجلها حُسني مبارك، بعد أن ظنّ الجمع أن مصر من شأنها أن تصبح دولة محترمة بين الأمم، يصبح المستفيد الأكبر من هذه الثورة.. هو الحُكم العسكري.
ونقول الحُكم العسكري وليس الجيش، لأنه من الآمال البريئة التي قامت من أجلها الثورة أن يصبح لدينا أقوى جيوش المنطقة، من ذا الذي يكره أن يرى جيوش بلاده عظيمة قوية لا تخشى إلا ربّها.. وتتطلّع إلى النّزال إذا ما دُقّت طبولُ الحرب!
لما قامت الثورة، لم تقُم من أجل خلع رأس نظام أفسد بينما يبقى نظام الحكم كما هو.. المشكلة الحقيقية لم تكن في مبارك بقدر ما كانت في الحكم العسكري.. الحُكم العسكري هو أساس كل الشرور التي مرّت بها مصر..
مصر تعيش حُكمًا عسكريًا طوال ستين عامًا، ومن قبلها عاشت نظامًا ملكيًا لم تكن إرادتها الكاملة في يدها أيضا، في الثورة الماضية - أحداث 25 يناير - لم يكن الهدف خلع مبارك ليحل محله حاكمًا عسكريًا جديدًا.. يأتمر بما يأمره به العسكر وينتهي بما ينهاه به.. كان الهدف، إذا ما تأمّلت هذه الجموع الحاشدة التي خرجت في ميادين مصر كلها.. دولة جديدة.. جمهورية ثانية..
لم يتصوّر أي من هؤلاء الذين خرجوا أن يكون نتاج هذه الثورة استكمال استبداد الحكم العسكري وتملّكه من زمام أمور البلاد، إن ما نعيشه الآن لا يمكن تفسيره إلا أنه انقلابًا عسكريًا جديدًا يضاف لانقلاب 23 يوليو..
أستغرب استهوان الناس بانقلاب 14 يونيو، الأمر لا علاقة له بحكم الدستورية الذي كان في أدراج المحكمة من شهور - والذي علق عليه الإخوان المسلمون في إحدى بياناتهم ولكن اكتفوا وقتئذ بإعلان الضجر والصخب، كان هذا البيان الإخواني ضمن سلسلة بيانات الإخوان التي كانت تخرج علينا وهم بمعزل عن الشارع - ، الأمر لا علاقة له بالقانون.. هو انقلاب على السلطة التشريعية يمكن تسميته انقلابًا خشنًا بعدما حاوطت الآليّات الأمنية العسكرية مبنى البرلمان..
في البداية، استهلّ الجيش المصري ثورة الشعب على طبق من ذهب ليذهب عنه هاجس التوريث، أزاحت الثورة ماء الوجه الذي كان يتصبّب من طنطاوي وعنان خوفًا من المستقبل من كان سيحكم مصر، وهل سيأتي اليوم الذي يقدّمان فيه التحية العسكرية لجيمي، جاءت الثورة لينحاز الجيش المصري وقتها للشعب المصري لا لشئ إلا أنه وجد نفسه في خيار إما ذليل مبارك الضعيف الذي سينتهي آجلًا أو عاجلًا وإما أن يستحوذ هو على الأمر برمّته.. فمن غير تفكير الخيار الثاني كان "الخيار المختار".. كما أن هذا الخيار ولا شك يتماشى مع رغبة أمريكا التي تعلم ضعف مبارك وقلة حيلته خاصّة في آخر عقد له في الحُكم..
ثم يعد بأن خيار الدولة المدنية لا رجعة عنه، وأن الديمقراطية ستكون سمة الحكم، وأن الجيش ليس بديلًا عن الشرعية التي اختارها الشعب.. ولكن مع مرور الأيام..
- يُحلّ مجلس الشعب الذي اختاره الناس بملء إرادتهم في أول انتخابات تشريعية نزيهة يعرفها المصريون.
- يُقضى على محاولات تأسيس الهيئة التأسيسية لوضع دستور البلاد على أيدي من اختارهم الشعب لينفرد بها هو.. تخيل أن دستور مصر الجديد سيضعه مئة فرد يختارهم "المجلس العسكري" الذي عادت له السلطة التشريعية..
- يُخلف وعده بتسليم السلطة كاملة في 30 يونيو، فالرئيس القادم لا برلمان له.. رأس السلطة التنفيذية ستُسلّم فقط، أما التشريعية ففي يد العسكري، والقضائية كذلك كما هو واضح في يد المجلس العسكري.
- تكتشف أنك على مدار عام ونصف كنت في مسرحية هزلية، كره الناس فيها الثورة والثوار واللي ثاروا، وأصبح همّ العامّة من الناس استعادة الأمن والأمان، حتى لو كان السبيل إلى ذلك انتخاب من سلبهما إيّاهم.. لأنه هو الذي خطفهما منهم..
* * *
إن دولًة بحجم مصر وأهميتها، لا يمكن أن يُترك قرارُها بيدها وحدها إلا إذا بُذل الغالي والنفيس، ولن يكون ذلك على مدار عام أو عامين.. الأمر يحتاج جهاد وكفاح عظيم.. الثورة على الفساد وحدها لا تكفي.. لدينا تحدّيات عظيمة مع الشعب نفسه.. هذا الشعب الذي وصل لمرحلة يعتبر فيها نفسه أقل من أن يعيش حياة كريمة..