الخميس، فبراير 16، 2012

حــكــاية ثـــورة..


يحكى أن تولى حكمَ بلد غنيّ رجلٌ توفرت فيه صفات البني آدم العادي الذي لا يهشّ ولا ينشّ.. لا يوصف بالقائد في أي موقف، وليس له حسنة تذكر على بلاده غير أنه كان موظفٌ تقليدي ملتزم بتنفيذ أوامر من كان فوقه في الأمر والنهي.

تولى حكم هذه البلاد وهو في حالة من الذهول.. حتى أنه اعترف بذلك بعدما تجذّرت أذرعه في الحُكم.. قال في شهور حكمي الأوائل كنت أتابع ما يحدث في الرئاسة فقط.. ما كان لي التصرف حيال شئ ما.. وهو ما يوحي أنه لم يأخذ حقه في صناعة القائد بداخله قبل توليه الحكم..

تولى الرجل زمام الأمور.. وأراد أن يثبت قوته في تولي البلاد، وأراد أن يجعل لنفسه شيئاً يتميز به كما تميز أسلافه.. فمن قبله تميز بالدهاء والحيلة.. ومن قبل قبله تميز بقوة الشخصية والزعامة والكاريزما.. فأراد أن يرتبط ذكره عند الناس بالتنمية والسلام والرخاء والبنية التحتية.. أو هكذا أشار عليه مساعدوه..

قضى أوائل سنوات حكمه ملهياً في البناء والأتوبيسات.. وكان يقول للناس أن الكفن لا جيوب فيه.. فهو زاهدٌ في الحياة لا يريد من الرئاسة مزايا ولا مناصب.. وأوحى للناس أنه لا ينوي التجديد في حكمه.. تكفي مدة واحدة فقط..

ولكن المدة جرّت مدة.. واستمر الرجل في الحكم عقود..

وتوغل نظامه الأمني في الناس.. وأصبح كل هم جهازه الشُّرطيّ ليس حماية الشعب وإنما الحفاظ في المقام الأول على النظام وعليه.. وفعل كل ما يمكن فعله لضمان ذلك على المستوى الداخلي من قهر للناس وظلمهم وكبت حرياتهم، وعلى المستوى الخارجي بالطأطأة للقوة العظمى واختفاء دور هذه البلدة العظيمة الإقليمي بالكامل، وحصر أمنها القومي على قدر حدودها فقط، بل إن أبناء الشعب كانوا يقتّلون على حدود البلاد من دون تحريك أي ساكن من سواكن الدولة حتى ولو للتعبير عن السخط من ذلك.. وكأنهم صفر!

وفي عقده الأخير، اعتمد على البوليس السياسي، فأيقظ الناس في سبات نومهم، وفزّعوهم.. وكبتوا كل فرصة لمعارض حقيقي قد يبزغ في سماء هذه البلاد.. فلا قائد إلا زعيم البلاد.. هو رئيس الدولة وزعيم الحزب الحاكم وجدّ الشعب المصري.

كما ترك الحبل على الغارب لأولاده وزوجته وعائلة زوجته لنهب ثروات البلاد.. واستشرى الفساد على كل المستويات.. من تحت يديه وهو يدري به.. أو لا يدري فتلك مصيبة أعظم..

تبلطج النظام الأمني في البلاد.. وأصبح عدو الشعب الأول.. وأيقن الجميع أن النظام الشرطي همه الأول حماية النظام لا حماية العباد..

إلا قليل ممن لم تكن لهم شوكة في النظام الأمني فكانوا يفعلون ما يؤمرون أو يستقيلون من العمل فيه..

طهق الناس.. وصعبت عليهم بلادهم التي كانوا يرونها أجمل بلاد الدنيا.. ويرونها تستحق أن تكون في مصافّ بلاد العالم المتحضّر.. ولكن حكم الرجل لهذه البلاد أخّرها مئة سنة خلف مثيلاتها من البلاد..

وكرهوا أن يروا بلادهم تحت حكم ولده الذي أُقحِمَ على الحياة السياسية في البلاد اقحاما كرهه القاصي والداني.. وأشفق عليه حتى من تجنّسوا بغير جنسيّة هذه البلاد..

فخرج الناس يهتفون بسقوط هذا الظلم.. وأنه حان الوقت لتغيير دفة البلاد..

حان الوقت أن يرى كل منهم نفسه في بلاده إنساناً..

كريماً داخل البلاد وخارجها..

ولاقت هذه التظاهرات اقبالا رهيبا من جموع الشعب.. فخرج كله منادياً نريد أن نحيا كراما في بلادنا، أعزاء فيها.. كرهنا الذل والمهانة..

فارتعد الأمن خوفاً.. وواجه هذه التظاهرات بالعنف فقتل من قتل من خيرة الشباب.. حتى وصل العدد لألف من خيرة شباب البلاد..

فجمّع ذلك شتات الشعب الذي فرقته عقود حكم العهد البائد بالمادية والدونية.. تجمعوا على خلع رئيس هذه البلاد..

حتى خُلِعَ حُكمُ الرجل..

وانقشعت ظلمة حكم بائد استمر عقود طويلة.. من مهانة إنسانية لم يعهدها مواطنو هذه البلاد..

قامت الثورة على حكم هذا الطاغية رفضا لظلم وقهر ومهانة دامت ثلاثين عاماً..

قامت ثورة ضد النهب والفساد ومصّ خيرات البلاد..

قامت من أجل من ماتوا بالسرطان بعد أن أكلوا من ثمرات رُشّت بمبيدات مسرطنة في صفقة سافلة مشبوهة..

قامت من أجل من غرقوا شهداء في بحار بعد أن حرقوا على متن عبارة وهم عائدين لبلادهم في سلام ولم يُسأل عنهم أحد..

قامت من أجل من حبسوا في سجون هذا النظام البائد وماتوا فيه..

قامت من أجل توفير الحاجات الأساسية لشعب يعيش في العراء.. وصخور تهدم فوق رؤوسهم.. ولا يُسأل عنهم أحد..

قامت من أجل محاسبة من أفسدوا الحياة السياسية في البلاد فزوروا انتخاباتها التشريعية في سفالة عياناً بياناً أمام العالم أجمع!.

قامت من أجل الانتقام ممن كانوا يتعاملون مع مقدرات هذه البلاد وكأنها عزبة أبيهم.. فيفصّلون لها قوانين تبيح نهب وسلب البلاد أبد الآبدين..

قامت من أجل إعلان انتهاء دولة الديكتاتور الذي لا ينتهي..

قامت لمحاكمته على ذلك كله..

ولكنهم يحاكمونه على من قتلوا أثناء الثورة..

يحاكمونه على قتل من كانت أنفسهم فداءً للبلاد ليعود الحق لمستحقيه..

يضيع الحقُّ الآن.. ويضيع ما مات من أجله شهداء هذه الثورة..

ولعله يخرج منها براءة.. لا تهمة عليه من قريب أو من بعيد..

ليعيش ما بقِيَ من حياته معززاً مكرّما..

بعد أن خُرِّبَ الإنسان المصري من داخله.. فيحتاج لعقود لبناءه هو شخصيّاً.. بدلاً من أن يُبنى الطّــوب..

ليُلتفّ على أجمل ثورة عرفها التاريخ..

وليبقى الأمل في غدٍ تحفّه الإجهاضات من كل جانب..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق