الأحد، يناير 03، 2010

على الشريط


أخدم على الشريط الحدودي لغزة منذ أعواماً عديدة، كنت هنا وقت الاحتلال الإسرائيلي لغزة وتابعت خدمتي بعدما انسحبت منه إسرائيل.. وعاصرت سيطرة حماس عليه فيما سمّي بالانقلاب على الشرعية.. والحق أن خدمتي على الشريط تسبب لي الاكتئاب المزمن يومياً، وأورثت بداخلي من التناقضات الشرسة ما يكاد يفتك بي.

والحقيقة أني كنت أتوقع الانسحاب الإسرائيلي من غزة آجلاً أو عاجلاً.. إسرائيل تريد أن تخلع مسئوليتها من القطاع وتوريط أي طرف آخر فيه.. وما يدفع إسرائيل خارج القطاع دفعاً حركة المقاومة التي تحصد كل يوم أو اثنين جندياً أو تصيب آخر.. أو ربما تخطف أحدهم.. مما جعل إسرائيل تشعر وكأن له قدم علقت تريد أن تخرج بها إلى ما تسيطر هي عليه بغير مشاكل.. ولتتخذ من انسحابها فرصة للوقيعة بين شركاء الحكم في فلسطين.. الحقيقة أني لم أقتنع تماماً بأنهم شركاء في أي شئ.. هم يتناحران منذ وجودهما.. وما منع اقتتالهما من ذي قبل غير وجود الشيخ ياسين في كفة حماس والرئيس عرفات في كفة فتح رحمهما الله.. فكان للاثنان ثقل بين الأمة.. وإن كان في رأيي ثقل الشيخ ياسين أقوى وأعمق في النفس..

فالشيخ ياسين هو من كان يقود المجاهدين لقتال الاحتلال ولا شئ غير الاحتلال.. وكان يرفض دخول حماس في الحكومة لأنه يعرف أن هذا سيقوّض من مقاومتها للعدو.. فإذا ما دخلت حماس السياسة وجب عليها الالتزام بالمعاهدات والاتفاقات التي أجريت بين الجانبين والتي جلها ظالم وجائر. ما كان الشيخ ياسين ليرضى بما يحدث بين شركاء الحكم في فلسطين.. بل كان يوجه القتال كله نحو العدو الحقيقي الظاهر الجليّ أمام أعين الناس كلهم.. العدو الصهيوني.

رحم الله الشيخ ياسين.. رجلٌ قعيدٌ بأمة بأكملها.. رزقه الله الشهادة لصدقه وحبّه لها.. وكذلك للدكتور الرنتيسي..

كنت إذا سمعت خبراً عن مقتل يهودي بغزة أثناء خدمتي على الحدود أطير فرحاً، وأشعر وكأن الانتصار لي شخصياً.. نعم فأنا أؤمن الحدود لأهل غزة وأخشى عليهم من المؤامرات والفتن.. وأذبّ عن أهلي بغزة كل منكر قد يسوء إليهم.. مخدرات كان أو عملاء.. نعم أنا أحرس غزة. وكنت إذا علمت هجوماً بربرياً صهيونياً على القطاع شعرت وكأن الهجوم على أهلي.. كم وددت لو أني أدخل فأقاتل وأحمي اخواني وأطفالي من هجوم الكلاب عليهم..

بينما كانت إسرائيل بالقطاع، لم تكن التوترات الحالية موجودة.. سواء الحدود أو بالداخل.. وهذا لا ينفي ضرب الجبناء لأهلي في غزة.. ولكن الأمر كان محكوماً فلا قصف جوي مثلاً.. وهذا في المقام الأول خوفاً على أنفسهم.. وبالتالي فأنا أرجع اسنحاب إسرائيل من غزة لهذا السبب.. حتى إذا ما أرادت أن تدك القطاع ما منعها من ذلك مانع.. وافترت في كل مكان.. يقاتلون من وراء جدر..

نعم، هي خطة فك الارتباط من جانب واحد، يلي ذلك بناء جدار العزل الذي جعل من القطاع سجن كبير..

بدأ دوري على الشريط يأخذ محوراً آخر..

لم يعد وجودي مبرراً من قبل نفسي واضطربت كثيراً.. فقبلاً كنت أهب لمنع دخول المهربات للقطاع.. وأساعد المرضى والأطفال والشيوخ منهم.. وكنت على كامل الاستعداد أن أدخل القطاع فأداوي كل جريح فيه.. وأحنو على كل صغير وشيخ فيه.. ولكن المظهر تحول إلى أني أشارك في الحصار على أهل غزة.. فإذا ما أرادوا الخروج من معبر رفح الحدودي منعتهم.. وإذا هرّب إليهم السلاح تصديت له..

أخشى على نفسي من القطاع.. تحول الأمر إلى كذلك.. أخشى أن يهرّب السلاح إلى مصر ليخدم أجندات دولٌ أخرى لا علاقة لها بالصراع العربي الإسرائيلي إلا صرخاً وبالفم الكاذب.. دولٌ قد تستغل حالة السداح مداح التي عليها الشريط الحدودي لتهرب سلاحاً ربما يوجه لقلب ابني وابنتي..

ولكن.. أهذه هي الحقيقة.. أم أني أتآمر على أهلي في غزة الذين ظلت أخدمهم طوال السنين الماضية.. وإذا كنت أتآمر فلمصلحة من ؟؟ لطالما أخذت قضية فلسطين على عاتقي.. ولم يتجرأ أحد أولئك الذي يتطاولون عليّ بعمل نصف ما عملته..

اليوم يحرق علمي.. وأتهم بالخيانة والاستبداد وحصار قطاع غزة..

اليوم إسرائيل بعيدة كل البعد عن الاتهامات والاستنكارات والشجب.. وأنا الذي في الصورة.. أنا العميل والخائن..

أنا أمرر المساعدات للقطاع ولكن على من يمررها أن يعلن عنها وأن يتبع الخط الذي أرسمه له.. لم العند ؟؟.. لماذا تتعاملون معي كخائن.. لماذا تنظرون إليّ بعين خبيثة.. هذا ظلم كبير.. أنا أخوكم الأكبر.. لا تخيروني بين أمني الشخصي وبين غزة.. كلاهما غالي عليّ..ولا تقولوا أنّي أبرر لي نفسي قتل غزة.. مالي بقتل غزة.. وكيف لي أن أقتل غزة والتي لطالما كانت في مسئوليتي منذ حكم مصر عليها وقت حكم جمال عبد الناصر.

أيكم فعل ما يزيد عن فعلي لغزة.. هاتوا أقساكم في الحديث عليّ ليقول لي ما قدم لغزة.. كفاكم عبثاً بالتاريخ.. أنا حامي غزة.. لا..

لا..

لست حامي غزة..

بل شأني شأنكم.. مثبّط الهمّة قليل الحيلة.. لا أدري ما أصنع بحالي.. فكيف أدري ما أصنع بغزة..

ولكنّكم مثلي، لستم أفضل مني.. وأولكم هذا الصغير الذي يتطاول عليّ.. هو أكبر معاون لإسرائيل اقتصاداً وسياسةً.. وهو مرتع لأكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط.. ارحموني اجعلوني أبحث عن أكل عيشي..

ولكن..

هل أكل عيشي هذا حلال ؟؟

هل حلالٌ عليّ أن آكل لقمة بينما أخي على الناحية الأخرى من الشريط يموت جوعاً.. إن نجا من الموت من القصف.

أذكر لكم أني كلما هممت لأن آكل أثناء الخدمة ما استطعت.. فنصفي جوعان لا يشبع.. ونفسي لا تتوقني للطعام إلا إذا طعم هو وشبع.. ولا يبدو لي ذلك محققاً في الظروف التي نحن فيها الآن..

ووسط هذا الهم.. من بين هذا الهم ما أضحكني.. وهو شر البلاء.. حينما علمت بحملة المقاطعة الأوروبية على مصر.. بسبب الحصار على غزة.. والاحتجاجات التي قام بها أجانب في ميدان التحرير لحرية غزة.. فجأة تحولنا نحن للجناة وأننا نحن من يحاصر غزة..

العالم كله ضدّي الآن.. فماذا أنا بفاعل ؟؟

ما هو الشئ الذي يجمع بيني وبين أخي ؟

أتدرون ما مشلكتي ؟؟

مشكلتي أنّي أريد أن أرضي كل الأطراف.. خيّرها وشرّيرها.. لا أريد أن يتضايق مني أحد..

أمريكا.. لا تأخذي على خاطرك مني فإننا شركاء استراتيجيون..

أوروبا.. نحن بيننا تجارة قديمة.. وخير قديم.. وتاريخ مشترك..

فلسطين.. أنت قلبي وأصلي وقبلتنا الثانية وبين كل لحظة وأخرى نشتاق إليك..

العرب.. نحن أخوة وحتماً مصيرنا مشترك..

أعرف أين خطئي.. فالحقّ لا يتجزأ.. الحقّ واحد..

من يريد أن يرضي كل الناس على اختلاف أهوائهم وأخلاقهم وعقائدهم ونواياهم.. فلا خير فيه..

عليّ أن أرى الحق فأتبعه.. ولا أخاف في الله لومة لائم..


هناك تعليق واحد:

  1. الاخ محمد
    حين قرأتك تذكرتنى انا المحاصرة فى غزة والتى تود لو لم يحدثكل هذا
    ما يحدث يا سيدى هو انناوحدنا ندفع الثمن وحدنا اقصد به انا وانت .. شعبي وشعبك
    اهلى واهلك

    اما حكومة حماس وحكومة مصروحكومة رام الله فلهم اجنداتهم ونحن ارخص مما تعتقدعندهم

    اختك من غزة

    ردحذف