هذا الكلام هو أبشع كلام أقرأه في هذا الباب، أبشع من سوء أدب الوهابية وجرأة التنويرين، لا أكاد أتصور أن يُسأل أحد هذا السؤال ويجيب بإجابة أبشع من هذه.
أولا: ما من مصيبة حلت على المسلمين أعظم من وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد تواتر علماء المسلمين قديما وحديثا على هذا القول، لم تكن حياة سيدنا الأعظم صلى الله عليه وسلم عبئا على الأمة حاشاه، بل هو رافع الإصر والأغلال عن الناس وهو النور الذي رفع عنهم الظلمة وتكبد في سبيل نجاتهم كل عسير حتى ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها.
ثانيا: الدين اكتمل في حياته صلى الله عليه وسلم، ما كان ليزيد أو لينقص باستمرار الحياة، إذ أنه الوضع الإلهي الخاتم الذي ارتضاه الله لعباده، هو المنتهى في الحكمة والكمال بحيث لا يمكن أن يزاد عليه، ولا يلزم عقلا ولا شرعا من استمرار الحياة أن تزيد التكاليف، على أنها لو زادت منه صلى الله عليه وسلم فهي على العين والرأس وهي نعمة ورحمة ونور، ولو قُدّر لأحدنا أن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه صاحبُ الشفاعة، فصاح الخادم في نفسه: (ورطة! رسول الله صلى الله عليه وسلم سيطلب مني شيئا) ما عددناه من المسلمين، بل منتهى آمال المسلمين أن يلبوا نداءه وتطرب آذانهم بطلبه ويجلسوا تحت قدمه صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: لازم هذا القول الشنيع أن يقال أن حياته الشريفة لو كانت أقصر لكان خيرا، أو أن بعثته الشريفة ذاتها كانت ورطة، أو غير ذلك مما يخجل اللسان أن يذكره من اللوازم الشنيعة التي أرجو ألا يلتزمها أحد من أتباعه عِندًا وتبجحًا.
رابعا: هذا الكلام الشنيع لو قيل للبالغين وحسُن ظننا بقائله لفتشنا له عن تأويلات لا لنصحح كلامه ولكن لنخفف عن قائله ما يستحق من تعزير، على أن يصحح لفظه ويعتذر عنه علنًا حفظا لمقام الجانب النبوي الشريف، أما أن يقال لأطفال صغار شأنهم أن يتعلموا الكلام على ظاهره ولا يُتوقع منهم تأويل ولا غيره ثم نجد من أصحاب العمم من يبرره فهذا من علامات سوء الزمان وانقراض العلماء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
خامسا: لو أردنا أن نصف انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى ربه بالرحمة فقد يكون ذلك بالنظر إلى زاوية أخرى، كأن نقول أن المرء منا إذا عصى أمره صلى الله عليه وسلم في حياته وحال وجوده وأمام عينه فإن ذلك يكون أشد جرما وأسوأ أدبا من عصيان أمره بعد انتقاله، ولعل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد علموا ما يكون من ضعف العباد وتلبسهم بسوء الأدب فأرادوا أن يرحموهم، فاختاروا انتقاله، وذلك على ما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد فرأى نائما، فقال: يا علي نبهه ليتوضأ، فأيقظه علي، ثم قال علي: يا رسول الله إنك سباق إلى الخيرات، فلم لم تنبهه أنت؟ قال: (لأن رده عليك ليس بكفر، ففعلت ذلك لتخف جنايته لو أبى).
أو كأن يقال أننا إذا نظرنا إلى حب المسلمين له صلى الله عليه وسلم وتكبدهم كل غال ونفيس لجواره، فلو ظل حيًا يتحرك بيننا فربما تصارع مليارات الناس للوصول إليه والجلوس عنده، غير مراعين لأدب جواره صلى الله عليه وسلم، رافعين أصواتهم منادينه من بعيد متثاقلين عليه، فاختار الله أن يرحمه صلى الله عليه وسلم من مشقة الدنيا، ويرحم عباده من الشقاق بينهم ومن مغبة سوء أدبهم، على أنه لو أبقاه صلى الله عليه وسلم لهانت علينا كل مشقة نتكبدها للوصول إليه، وعلى أنه صلى الله عليه وسلم وهو حي في قبره فإننا نبذل في زيارته الغالي والنفيس طيبين النفس بذلك.
فهذه الأسباب وغيرها تحفظ مقامه الشريف وتزيد من حبه وتقديره وتبجيله وتعظيمه في النفوس، لاسيما نفوس الأطفال، أما أن نذكر أسبابا توحي أننا قد ارتحنا منه فبئس المقول هذا، كبرت كلمة تخرج من أفواههم والله، كلمة شنيعة نبرأ إلى الله منها، ونرجو الله أن يلهم من قالها ومن كررها ومن بررها التوبة قبل الممات وأن يجنبهم مغبتها وعاقبتها، ونسأله سبحانه أن يحققنا بتمام الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق