الجمعة، نوفمبر 01، 2013

من تفسير سورة الكهف للمراغي - الصاحبان

ودخل جنته وهو ظالمٌ لنفسه قال ما أظُنُ أن تبيدَ هذه أبدًا، وما أظُنُ الساعةَ قآئمةً ولئن رُدِدتُ إلى ربي لأجِدَنَّ خيرًا منها مُنقلبًا..

قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من ترابٍ ثُم من نُطْفةٍ ثُم سوَّاكَ رَجُلًا؟

***
بعد أن أمر الله نبيه بصبر نفسه مع فقراء المؤمنين، وعدم طاعة أولئك الأغنياء من المشركين الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم طرد هؤلاء الصعاليك، وأن يعين لهم مجلسا وللسادة مجلسا آخر حتى لا يؤذوهم بمناظرهم البشعة، وروائحهم المستقذرة، وحتى لا يقال إن السادة ومواليهم يجتمعون في صعيد واحد، ويتحدثون وإياهم حديث الند للند، وفى ذلك امتهان لكبريائهم وخفض من عزتهم - قفى على ذلك بمثل يستبين منه أن المال لا ينبغي أن يكون موضع فخار، لأنه ظل زائل، وأنه كثيرا ما يصير الفقير غنيا والغنى فقيرا، وإنما الذي يجب أن يكون أساس التفاخر، وعمدة التفاضل، هو طاعة الله وعبادته والعمل على ما يرضيه في دار الكرامة حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

"ودخل جنته وهو ظالمٌ لنفسه قال ما أظُنُ أن تبيدَ هذه أبدًا، وما أظُنُ الساعةَ قآئمةً ولئن رُدِدتُ إلى ربي لأجِدَنَّ خيرًا منها مُنقلبًا.."

أي ودخل هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب وأشجار ونخيل، ومعه صاحبه، هاتين الجنتين وطاف به فيهما مفاخرا وقال حين عاين ما فيهما من أشجار وثمار وزروع وأنهار مطردة: ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا ولا تخرب - كما قال (وهو شاك في المعاد إلى الله والبعث والنشور) ما أظن أن يوم القيامة آت كما تقولون، وقد كان في كل ذلك ظالما لنفسه، إذ وضع الشيء في غير موضعه، فقد كان أليق به أن يكون شاكرا لتلك النعم، متواضعا لربه، لا أن يكون كافرا به، منكرا لما جاء به الوحي، وأقرته جميع الشرائع.

"ولئن رُدِدتُ إلى ربي لأجِدَنَّ خيرًا منها مُنقلبًا.."

أي ولئن كان معاد ورجعة إلى الله ليكوننّ لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي، والذي جرّأه على هذا الطمع وعلى تلك اليمين الفاجرة - اعتقاده أن الله إنما حباه بما حباه به في الدنيا لما له من كرامة لديه، ولما فيه من مزايا استحق بها أن ينال ما نال.

"قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من ترابٍ ثُم من نُطْفةٍ ثُم سوَّاكَ رَجُلًا؟.."

أي قال له صاحبه المؤمن واعظا وزاجرا عما هو فيه من الكفر: أكفرت بالذي خلقك من التراب؟ إذ غذاء والديك من النبات والحيوان، وغذاء النبات من التراب والماء، وغذاء الحيوان من النبات، ثم يصير هذا الغذاء دما يتحول بعضه إلى نطفة يكون منها خلقك بشرا سويا على أتم حال وأحكمه بحسب ما تقتضيه الحكمة - فهذا الذي خلقك على هذه الحال قادر على أن يخلقك مرة أخرى.

والخلاصة - كيف تجحدون ربكم، ودلالة خلقكم على وجوده ظاهرة جلية يعلمها كل أحد من نفسه، فما من أحد إلا يعلم أنه كان معدوما ثم وجد، وليس وجوده من نفسه. ولا مستندا إلى شيء من المخلوقات، لأنها مثله، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "لكنَّا هو الله ربي": أي لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف بالوحدانية والربوبية وأقول هو الله ربي، "ولا أُشْرِكُ بربي أحدًا..": فهو المعبود وحده لا شريك له.

وفي هذا تعريض بأن صاحبه لما قال بعجز الله عن البعث (وما أظُنُ الساعةَ قائمة) فقد جعله مساويا لخلقه في هذا العجز، وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك.

"لولا إذ دخلت جَنَّتك قُلت ما شاء الله لا قُوَّةَ إلا بالله..": وهلا إذ أعجبتك جنتك حين دخلتها ونظرت إليها - حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعط غيرك، وقلت: الأمر ما شاء الله، والكائن ما قدره الله، ليكون ذلك منك اعترافا بالعجز، وبأن كل خير بمشيئة الله وفضله، وهلا قلت: لا قوة إلا بالله، إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فإنما هو بمعونة الله وتأييده.

***
الحمدُ للهِ الذي أَنزلَ على عَبْدِهِ الكِتابَ ولَم يَجْعَل لهُ عِوَجا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق