ابتُلى المسلمون في العقود الأخيرة ببلية عظمى وفتنة كبرى، وهي تصاعد خطاب عليه كسوة الدين لكنه للكفر أقرب منه للإيمان، يدعو الناس إلى "عدم المغالاة" في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدعوهم إلى اعتبار حبيب الله وأكرم الخلق عليه مجرد إنسان كان يوصل رسالة ثم توفاه الله وانتهى دوره وفضله، حاشاه من تلك الكلمة القبيحة، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا.
وسبب كونها كلمة قبيحة شنعاء، هي اعتبار أن التعظيم التام والتوقير الأقصى والمحبة الكبرى كلها من المغالاة، في حين أنها كلها لا تفي بشيء من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تخيل أنك رجل غبي بليد محاط بمجموعة من الحمقى، لا يحسن أحدكم الجمع والطرح، ثم رأيت رجلا معه دكتوراه في الرياضيات وأردت أن تختبره فسألته عن حاصل ضرب ٢x٣ وحاصل ضرب ٣x٣ وأجابك في سرعة فائقة، فلما أردت أن تمدحه قلت له (أنت أفضل من يحفظ جدول الضرب للرقم ٣)، أتكون بهذا قد مدحته أم أسأت إليه؟ لا شك أنك بهذا قد أسأت إليه، لأنك مدحته بشيء هو أقل بكثير جدا من قدراته الحقيقية، واعتبرت أن مفهومك عن التفوق الرياضي الذي نتج عن بلادتك هو المعيار الحقيقي للتفوق، فتكون أسأت الأدب من حيث أردت المديح.
فهكذا الأمر مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن المغالاة هي مجاوزة الحد، يعني أنت تكون مغاليا إن وصفت إنسانا برحمة تفوق رحمته الحقيقة، أو بكرم يفوق كرمه الحقيقي، أو غير ذلك مما لا تبلغه صفاته، والحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الكمالات ما لا يستطيع أحدنا تصوره، وكل صورة في أذهاننا عن رحمته أو شجاعته أو جماله أو كرمه عند ربه وتفضيل الله له إنما هي صورة قاصرة، وكل تصور فينا عن معنى النبوة إنما هو تصور قاصر، فعجبا لإنسان قاصر العقل يسيء الأدب في تصوراته عن صفات حبيب الله ثم يظن نفسه مغاليا في المدح! ولو أنصف لاستغفر الله بعد كل مدح يمدحه، واعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن مديحه هذا هو أقصى ما يستطيع أن يقول بلسانه ويدرك بعقله، والعفو عند رسول الله مأمول.
وهؤلاء القوم إنما يتذرعون بمخافة الشرك على الأمة، ومخافة أن يتخذ الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم ندا لله، يحاربون طواحين الهواء والله والهواجس تأخذهم لتخيل أمور غير موجودة، هل سمعتم بأحد يعبد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون الله؟ هل وضعه أحد في درجة الألوهية وجعله شريكا لله؟ هل رأيتم من أطرى رسول الله كما أطرت النصارى سيدنا عيسى فوصفوه بأنه الله او ابن الله؟ بل ما يزال المسلمون قديما وحديثا شرقا وغربا يرطبون ألسنتهم بمديحه ويطربون لسماع اسمه وسيرته وكلهم معترفون بأنه عبد الله ورسوله، عقيدة مستقرة فيهم لا يتوجس منها إلا مريض في درجة متأخرة من داء الوسوسة.
ومن أسباب ذلك، بلادة العقول وضعف اللغة، فكل مدح يثبت قدرة لرسول الله، أو يطلب منه أن يتفضل علينا، أو يخاطبه بصيغة التعظيم، أو يعلن له عن أقصى درجات الحب، اعتبروه من الشرك وحملوه على معنى عبودية الأنداد، وتركوا ما يعرفه كل من له علاقة بلغة العرب من المجازات والكنايات والإشارات، تقال كلمة لها ألف وجه من الصواب فيفتشون لها عن الوجه الوحيد الذي يضع قائلها تحت سهام التكفير والتفسيق والتشريك والمغالاة بزعمهم، غير عابئين بقائلها إن كان إمام زمانه أو عالما في التوحيد أو رجلا يُشهد له بالصلاح والإيمان والحرص على السنة.
ميراث خبيث ونفسية عطنة تريد أن تمحو من تراث الأمة كل أثر فيه تعبير العاشقين عن عشقهم لرسول الله، فبعضهم يكتب شعرا، وبعضهم يتمسح بآثاره، وبعضهم يتوسل به، وبعضهم يوسطه توسيط المحب لا توسيط المعبود أو الأنداد، وبعضهم يذكره بمناسبة وغير مناسبة أنسا بسيرته، وقد دأبت الأمة على ذلك قرونا من غير نكيرِ ذي بال، حتى المسائل التي اختلف فيها العلماء مثل التوسل والاستغاثة لم يجعلوا ذلك من باب العقائد التي يُتهم فاعلها بالشرك أو المغالاة في الحب، بل منعها مَن منعها من باب الفقهيات، وشتان بين ذلك وبين ما نرى الآن من سفهاء الأحلام.
والحق أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم، وأكرم خلق الله على الله، وهو إمام الأولين والآخرين، وهو ولينا الأعظم وحبيبنا الأجل، ينفعنا في حياته وبعد انتقاله، وينفعنا في الدنيا ويوم القيامة، وينفعنا وهو بيننا وينفعنا في قبره، وهو أجل الخلق وأعظمهم وأجملهم وأحسنهم خلقا وخلقا، وهو النبي الأمجد الذي حارت في معناه العقول، وهو النور المبين والصراط المستقيم، لا يدخل الجنة أحد إلا خلفه ولا يبدأ حساب الخلق إلا بشفاعته ولأجله خلق الله آدم عليه السلام، صلى الله عليه وسلم، تنزه عن كل نقيصة وعيب، واتصف بكل كمال وفضل، عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه.
ولا يبعد أن يقال أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعظيمه هو الإسلام، وإن تغايرا في الماهية، ألا ترى أن حبه لا يكون على الصورة الأتم إلا بتوحيد الله وأنه صلى الله عليه وسلم طريق كل خير وسبيل كل فضيلة وهو باب الله الذي لا يُقبل توحيد بدون إذعان له؟ ألا ترى أن كمال الإيمان لا يكون إلا بأن يكون سيدنا الأعظم ورسولنا الأمجد أحب إلينا من أنفسنا وأولادنا وأموالنا؟
فحبه إيمان وبغضه كفران، وبينهما تتفاوت درجات المرحومين والمحرومين، اللهم أدخلنا في زمرته واحشرنا تحت لوائه واملأ قلوبنا بحبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق